الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أما نفسك فلا شك أنها كانت جاهلة في مبدأ الفطرة كما قال تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النمل: 78] ثم تأمل في مراتب القوى الحساسة والمحركة والمدركة والعاقلة، وتأمل في مراتب المعقولات وفي جهاتها، واعلم أنه لا نهاية لها ألبتة، ولو أن العاقل أخذ في اكتساب العلم بالمعقولات وسرى فيها سريان البرق الخاطف والريح العاصف وبقي في ذلك السير أبد الآبدين ودهر الداهرين لكان الحاصل له من المعارف والعلوم قدرًا متناهيًا، ولكانت المعلومات التي ما عرفها ولم يصل إليها أيضًا غير متناهية، والمتناهي في جنب غير المتناهي قليل في كثير، فعند هذا يظهر له أن الذي قاله الله تعالى في قوله: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85] حق وصدق. وأما بدنك فاعلم أنه جوهر مركب من الأخلاط الأربعة، فتأمل كيفية تركيبها وتشريحها، وتعرف ما في كل واحد من الأعضاء والأجزاء من المنافع العالية والآثار الشريفة وحينئذٍ يظهر لك صدق قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وحينئذٍ ينجلي لك أثر من آثار كمال رحمته في خلقك وهدايتك، فتفهم شيئًا قليلًا من معنى قوله: {الرحمن الرحيم} لا رحمن إلا الله فإن قيل: فهل لغير الله رحمة أم لا؟ قلنا: الحق أن الرحمة ليست إلا لله، ثم بتقدير أن تكون لغير الله رحمة إلا أن رحمة الله أكمل من رحمة غيره، وهاهنا مقامان: المقام الأول: في بيان أنه لا رحمة إلا لله، فنقول: الذي يدل عليه وجوه: الأول: أن الجود هو إفادة ما ينبغي لا لعوض، فكل أحد غير الله فهو إنما يعطي ليأخذ عوضًا، إلا أن الأعواض أقسام: منها جسمانية مثل أن يعطي دينارًا ليأخذ كرباسًا، ومنها روحانية وهي أقسام: فأحدها: أنه يعطي المال لطلب الخدمة، وثانيها: يعطي المال لطلب الإعانة، وثالثها: يعطي المال لطلب الثناء الجميل، ورابعها: يعطي المال لطلب الثواب الجزيل، وخامسها: يعطي المال ليزيل حب المال عن القلب، وسادسها: يعطي المال لدفع الرقة الجنسية عن قلبه، وكل هذه الأقسام أعواض روحانية، وبالجملة فكل من أعطي فإنما يعطي ليفوز بواسطة ذلك العطاء بنوع من أنواع الكمال، فيكون ذلك في الحقيقة معاوضة، ولا يكون جودًا، ولا هبة، ولا عطية، أما الحق سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته، فيستحيل أن يعطي ليستفيد به كمالًا، فكان الجواد المطلق والراحم المطلق هو الله تعالى. الحجة الثانية: أن كل من سوى الله فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد واجب الوجود لذاته، فكل رحمة تصدر من غير الله فهي إنما دخلت في الوجود بإيجاد الله فيكون الرحيم في الحقيقة هو الله تعالى. الحجة الثالثة: أن الإنسان يمكنه الفعل والترك، فيمتنع رجحان الفعل على الترك إلا عند حصول داعية جازمة في القلب، فعند عدم حصول تلك الداعية يمتنع صدور تلك الرحمة منه، وعند حصولها يجب صدور الرحمة منه، فيكون الراحم في الحقيقة هو الذي خلق تلك الداعية في ذلك القلب، وما ذاك إلا الله تعالى، فيكون الراحم في الحقيقة هو الله تعالى. الحجة الرابعة: هب أن فلانًا يعطي الحنطة، ولكن ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة، وهب أنه وهب البستان فما لم تحصل القوة الباصرة في العين لم يحصل الانتفاع بذلك البستان، بل الحق أن خالق تلك الحنطة وذلك البستان هو الله تعالى والممكن من الانتفاع بهما هو الله، والحافظ له عن أنواع الآفات والمخافات حتى يحصل الانتفاع بتلك الأشياء هو الله تعالى، فوجب أن يقال: المنعم والراحم في الحقيقة هو الله تعالى. المقام الثاني: في بيان أن بتقدير أن تحصل الرحمة من غير الله إلا أن رحمة الله أكمل وأعظم. وبيانه من وجوه: الأول: أن الأنعام يوجب علو حال المنعم ودناءة حال المنعم عليه بالنسبة إلى المنعم، فإذا حصل التواضع بالنسبة إلى حضرة الله فذاك خير من حصول هذه الحالة بالنسبة إلى بعض الخلق. الثاني: أن الله تعالى إذا أنعم عليك بنعمة طلب عندها منك عملًا تتوصل به إلى استحقاق نعم الآخرة، فكأنه تعالى يأمرك بأن تكتسب لنفسك سعادة الأبد، وأما غير الله فإنه إذا أنعم عليك بنعمة أمرك بالاشتغال بخدمته والانصراف إلى تحصيل مقصوده، ولا شك أن الحالة الأولى أفضل. الثالث: أن المنعم عليه يصير كالعبد للمنعم، وعبودية الله أولى من عبودية غير الله. الرابع: أن السلطان إذا أنعم عليك فهو غير عالم بتفاصيل أحوالك، فقد ينعم عليك حال ما تكون غنيًا عن إنعامه، وقد يقطع عنك إنعامه حال ما تكون محتاجًا إلى إنعامه، وأيضًا فهو غير قادر على الإنعام عليك في كل الأوقات وبجميع المرادات، أما الحق تعالى فإنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات، فإذا ظهرت بك حاجة عرفها، وإن طلبت منه شيئًا قدر على تحصيله، فكان ذلك أفضل. الخامس: الإنعام يوجب المنة، وقبول المنة من الحق أفضل من قبولها من الخلق. فثبت بما ذكرنا أن الرحمن الرحيم هو الله تعالى، وبتقدير أن يحصل رحمن آخر فرحمة الله تعالى أكمل وأفضل وأعلى وأجل، والله أعلم. .الباب الحادي عشر: في بعض النكت المستخرجة من قولنا {بسم الله الرحمن الرحيم}: .النكتة الأولى: .الثانية: .الثالثة: .الرابعة: .الخامسة: .السادسة: إلهنا إن بحار الرحمة بالنسبة إلى رحمتك أقل من الذرة بالنسبة إلى العرش، فكما ألقيت في أول كتابك على عبادك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين عن رحمتك وفضلك. .السابعة: .الثامنة: .التاسعة: .العاشرة: .الحادية عشرة: وفي داخل الكتاب ابتدأ بقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} كما هو العادة في جميع الكتب، فلما أخذت بلقيس ذلك الكتاب قرأت ما في عنوانه، فقالت: إنه من سليمان، فلما فتحت الكتاب قرأت: {بسم الله الرحمن الرحيم} فقالت: وأنه {بسم الله الرحمن الرحيم} الثالث: أن بلقيس كانت كافرة فخاف سليمان أن تشتم الله إذا نظرت في الكتاب فقدم اسم نفسه على اسم الله تعالى، ليكون الشتم له لا لله تعالى. .الثانية عشرة: وأما السين فهو مشتق من اسمه السميع، يسمع دعاء الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى. روي أن زيد بن حارثة خرج مع منافق من مكة إلى الطائف فبلغا خربة فقال المنافق ندخل هاهنا ونستريح، فدخلا ونام زيد فأوثق المنافق زيدًا وأراد قتله، فقال زيد: لم تقتلني؟ قال: لأن محمدًا يحبك وأنا أبغضه، فقال زيد: يا رحمن أغثني، فسمع المنافق صوتًا يقول: ويحك لا تقتله، فخرج من الخربة ونظر فلم يرَ أحدًا، فرجع وأراد قتله فسمع صائحًا أقرب من الأول يقول: لا تقتله، فنظر فلم يجد أحدًا، فرجع الثالثة وأراد قتله فسمع صوتًا قريبًا يقول: لا تقتله، فخرج فرأى فارسًا معه رمح فضربه الفارس ضربة فقتله، ودخل الخربة وحل وثاق زيد، وقال له: أما تعرفني؟ أنا جبريل حين دعوت كنت في السماء السابعة فقال الله عز وجل: «أدرك عبدي»، وفي الثانية كنت في السماء الدنيا، وفي الثالثة بلغت إلى المنافق. وأما الميم فمعناه أن من العرش إلى ما تحت الثرى ملكه وملكه. قال السدي: أصاب الناس قحط على عهد سليمان بن داود عليهما السلام، فأتوه فقالوا له: يا نبي الله، لو خرجت بالناس إلى الاستسقاء، فخرجوا وإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، ولا غنى لي عن فضلك، قال: فصب الله تعالى عليهم المطر، فقال لهم سليمان عليه السلام: ارجعوا فقد استجيب لكم بدعاء غيركم. أما قوله: الله فاعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي الله، فإذا مت أقول الله، وإذا سئلت في القبر أقول الله، وإذا جئت يوم القيامة أقول الله، وإذا أخذت الكتاب أقول الله وإذا وزنت أعمالي أقول الله، وإذا جزت الصراط أقول الله، وإذا دخلت الجنة أقول الله، وإذا رأيت الله قلت الله.
|