الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: قرأ أبو عمرو وأبو بكر {يرجعون} بالياء الباقون بالتاء. {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلسُ المجرمون} وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَميّ {يُبْلَسُ} بفتح اللام؛ والمعروف في اللغة: أبلس الرجل إذا سكت وانقطعت حجته، ولم يؤمّل أن يكون له حجة. وقريب منه: تحيّر؛ كما قال العجاج: وقد زعم بعض النحويين أن إبليس مشتق من هذا، وأنه أبلس لأنه انقطعت حجته. النحاس: ولو كان كما قال لوجب أن ينصرف، وهو في القرآن غير منصرف. الزجاج: المبلس الساكت المنقطع في حجته، اليائس من أن يهتدي إليها. {وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَآئهمْ} أي ما عبدوه من دون الله {شُفَعَاءُ وَكَانُوا بشُرَكَآئهمْ كَافرينَ} قالوا ليسوا بآلهة فتبرؤوا منها وتبرأت منهم؛ حسبما تقدم في غير موضع. قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئذٍ يَتَفَرَّقُونَ} يعني المؤمنين من الكافرين؛ ثم بين كيف تفريقهم فقال: {فَأَمَّا الذين آمَنُوا} قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: معنى أمّا دع ما كنا فيه وخذ في غيره. وكذا قال سيبويه: إن معناها مهما كنا في شيء فخذ في غير ما كنا فيه. {فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال الضحاك: الروضة الجنة، والرياض الجنان. وقال أبو عبيد: الروضة ما كان في تسفُّل، فإذا كانت مرتفعة فهي تُرْعة. وقال غيره: أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في موضع مرتفع غليظ؛ كما قال الأعشى: إلا أنه لا يقال لها روضة إلا إذا كان فيها نبت، فإن لم يكن فيها نبت وكانت مرتفعة فهي ترعة. وقد قيل في الترعة غير هذا. وقال القُشَيْريّ: والروضة عند العرب ما ينبت حول الغدير من البقول؛ ولم يكن عند العرب شيء أحسن منه. الجوهريّ: والجمع روْض ورياض، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها والرّوض: نحوٌ من نصف القرْبَة ماء وفي الحوض رَوْضة من ماء إذا غطّى أسفله وأنشد أبو عمرو: {يُحْبَرُونَ} قال الضحاك وابن عباس: يُكرمون. وقيل: ينعّمون؛ وقاله مجاهد وقتادة. وقيل يسرّون. السُّدّي: يفرحون. والحَبْرَة عند العرب: السرور والفرح؛ ذكره الماورديّ. وقال الجوهري: الحَبْر: الحُبُور وهو السرور؛ ويقال: حبره يحبره بالضم حَبْرا وحَبَرَة؛ قال تعالى: {فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي ينعمون ويكرمون ويسرون. ورجل يَحْبُور يفعول من الحبور. النحاس: وحكى الكسائيّ حبرته أي أكرمته ونعّمته. وسمعت عليّ بن سليمان يقول: هو مشتق من قولهم: على أسنانه حَبْرة أي أثر؛ ف {يحبرون} يَتَبيّن عليهم أثر النعيم والحبر مشتق من هذا، قال الشاعر: وقيل: أصله من التحبير وهو التحسين؛ ف {يُحْبَرُونَ} يحسَّنون. يقال: فلان حَسَن الحبر والسّبْر إذا كان جميلًا حسن الهيئة. ويقال أيضًا: فلان حسن الحَبْر والسَّبْر بالفتح؛ وهذا كأنه مصدر قولك: حبَرَتُه حَبْرًا إذا حسّنته. والأوّل اسم؛ ومنه الحديث: «يخرج رجل من النار ذهب حبْره وسبْره» وقال يحيى بن أبي كثير {في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال: السّمَاع في الجنة؛ وقاله الأوزاعيّ، قال: إذا أخذ أهل الجنة في السماع لم تبق شجرة في الجنة إلا رَدّدَت الغناء بالتسبيح والتقديس. وقال الأوزاعيّ: ليس أحد من خلق الله أحسنَ صوتًا من إسرافيل، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم. زاد غير الأوزاعيّ: ولم تبق شجرة في الجنة إلا ردّدت، ولم يبق ستر ولا باب إلا ارتج وانفتح، ولم تبق حلقة إلا طنت بألوان طنينها، ولم تبق أجمة من آجام الذهب إلا وقع أهبوب الصوت في مقاصبها فزَمَرت تلك المقاصب بفنون الزمر، ولم تبق جارية من جوار الحور العين إلا غنَّت بأغانيها، والطير بألحانها، ويوحي الله تبارك وتعالى إلى الملائكة أن جاوبوهم وأسمعوا عبادي الذين نزهوا أسماعهم عن مزامير الشيطان فيجاوبون بألحان وأصواتٍ روحانيين فتختلط هذه الأصوات فتصير رجة واحدة، ثم يقول الله جل ذكره: يا داود قم عند ساق عرشي فمجّدني؛ فيندفع داود بتمجيد ربه بصوت يغمر الأصوات ويجليها وتتضاعف اللذة؛ فذلك قوله تعالى: {فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ}. ذكره الترمذيّ الحكيم رحمه الله. وذكر الثعلبيّ من حديث أبي الدّرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكّر الناس؛ فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم؛ وفي أخريات القوم أعرابيّ فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من سماع؟ فقال: «نعم يا أعرابي إن في الجنة لنهرًا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خمصانية يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة» فسأل رجل أبا الدّرداء: بماذا يتغنين؟ فقال بالتسبيح والخمصانية: المرهفة الأعلى، الخمصانة البطن، الضخمة الأسفل. قلت: وهذا كله من النعيم والسرور والإكرام؛ فلا تعارض بين تلك الأقوال. وأين هذا من قوله الحق: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفيَ لَهُم مّن قُرَّة أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] على ما يأتي. وقوله عليه السلام: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وقد روي: «إن في الجنة لأشجارًا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحًا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربًا» ذكره الزمخشريّ. قوله تعالى: {وَأَمَّا الذين كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتنَا} تقدّم الكلام فيه. {وَلقَاء الآخرة} أي بالبعث. {فأولئك في العذاب مُحْضَرُونَ} أي مقيمون وقيل: مجموعون وقيل: معذبون وقيل: نازلون؛ ومنه قوله تعالى: {إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} [البقرة: 180] أي نزل به؛ قاله ابن شجرة، والمعنى متقارب. اهـ. .قال أبو السعود: {وَأَمَّا الذين كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتنا} التي من جُملتها هذه الآياتُ النَّاطقةُ بما فُصّل {وَلقَاء الآخرة} صرَّح بذلك مع اندراجه في تكذيب الآيات للاعتناء بأمره. وقولُه تعالى: {فَأُوْلَئكَ} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتّصافه بما في حيّز الصّلة من الكُفر والتَّكذيب بآياته تعالى وبلقاء الآخرة للإيذان بكمال تميُّزهم بذلكَ عن غيرهم وانتظامهم في سلك المُشاهدات، وما فيه من مَعْنى البُعد مع قُرب العهد بالمشار إليه للإشعار ببُعد منزلتهم في الشرّ أي أولئكَ الموصوفونَ بما فُصّل من القبائح. {فى العذاب مُحْضَرُونَ} على الدّوام لا يغيبونَ عنه أبدًا. اهـ. .قال الألوسي: {ثُمَّ يُعيدُهُ} بالبعث {ثُمَّ إلَيْه تُرْجَعُونَ} للجزاء، وتقديم المعمول للتخصيص، وكان الظاهر يرجعون بياء الغيبة إلا أنه عدل عنه إلى خطاب المشركين لمكافحتهم بالوعيد ومواجهتهم بالتهديد وإيهام إن ذلك مخصوص بهم فهو التفات للمبالغة في الوعيد والترهيب. وقرأ أبو عمرو وروح {يَرْجعُونَ} بياء الغيبة كما هو الظاهر. {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} التي هي وقت إعادة الخلق ومرجعهم إليه عز وجل: {يُبْلسُ المجرمون} أي يسكتون وتنقطع حجتهم، قال الراعب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل، ولما كان المبلس كثيرًا ما يلزم السكوت وينسى ما يعينه قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته وأبلست الناقة فهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة وقال ابن ثابت: يقال أبلس الرجل إذا يئس من كل خير، وفي الحديث «وأنا مبشرهم إذا أبلسوا» والمراد بالمجرمين على ما أفاده الطيبي أولئك الذين أساءوا السوأى لكنه وضع الظاهر موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بهذا الوصف الشنيع والإشعار بعلة الحكم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي {يُبْلسُ} بفتح اللام وخرج على أن الفعل من أبلسه إذا أسكته، وظاهره أنه يكون متعديًا وقد أنكره أبو البقاء والسمين وغيرهما حتى تكلفوا وقالوا: أصله يبلس إبلاس المجرمين على إقامة المصدر مقام الفاعل ثم حذفه وإقامة المضاف إليه مقامه. وتعقبه الخفاجي عليه الرحمة فقال: لا يخفى عدم صحته لأن إبلاس المجرمين مصدر مضاف لفاعله وفاعله هو فاعل الفعل بعينه فكيف يكون نائب الفاعل فتأمل. وأنت تعلم أنه متى صحت القراءة لا تسمع دعوى عدم سماع استعمال أبلس متعديًا. {وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائهمْ} ممن أشركوهم بالله سبحانه في العبادة ولذا أضيفوا إليهم، وقيل: إن الإضافة لإشراكهم إياهم بالله تعالى في أموالهم والمراد بهم الأوثان، وقال مقاتل: الملائكة عليهم السلام، وقيل: الشياطين، وقيل: رؤساؤهم {شُفَعَاء} يجيرونهم من عذاب الله تعالى كما كانوا يزعمون، وجىء بالمضارع منفيًا بلم التي تقلبه ماضيًا للتحقق، وصيغة الجمع لوقوعها في مقابلة الجمع أي لم يكن لواحد منهم شفيع أصلًا. وقرأ خارجة عن نافع، وابن سنان عن أبي جعفر، والأنطاكي عن شيبة {وَلَمْ تَكُنْ} بالتاء الفوقية. {وَكَانُوا بشُرَكَائهمْ} أي بإلهيتهم وشركتهم كما يشير إليه العدول عن وكانوا بهم {كافرين} حيث يئسوا منهم ووقفوا على كنه أمرهم، {وَكَانُوا} للدلالة على الاستمرار لا للمحافظة على رءوس الفواصل كما توهم. وقيل: إنها للمضي كما هو الظاهر، والباء في {بشُرَكَائهمْ} سببية أي وكانوا في الدنيا كافرين بالله تعالى بسببهم ولم يرتضه بعض الأجلة إذ ليس في الإخبار بذلك فائدة يعتد بها، ولأن المتبادر أن {يَوْمٍ تَقُومُ الساعة} [الروم: 12] ظرف للإبلاس وما عطف عليه ولذا قيل: إن المناسب عليه جعل الواو حالية ليكون المعنى أنهم لم يشفعوا لهم مع أنهم سبب كفرهم في الدنيا وهو أحسن من جعله معطوفًا على مجموع الجملة مع الظرف، مع أنه عليه ينبغي القطع للاحتياط إلا أن يقال: إنه ترك تعويلًا على القرينة العقلية، وهو خلاف الظاهر، وكتب {شفعواء} في المصحف بواو بعدها ألف وهو خلاف القياس والقياس ترك الواو أو تأخيرها عن الألف لكن الأول أحسن كما ذكر في الرسم، وكذا خولف القياس في كتابه {السوأى} حيث كتبت بالألف قبل الياء والقياس كما في الكشف الحذف لأن الهمز يكتب على نحو ما يسهل.
|