الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ} في إقامة تلك الأعمالِ أي ضاع وبطَل بالكلية {وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم} متعلقٌ بالسعي لا بالضلال لأن بُطلاَن سعيِهم غيرُ مختصَ بالدنيا، قيل: المرادُ بهم أهلُ الكتابين قاله ابن عباس وسعدُ بنُ أبي وقاص ومجاهدٌ رضي الله عنهم، ويدخُل في الأعمال حينئذ ما عمِلوه من الأحكام المنسوخةِ المتعلقةِ بالعبادات، وقيل: الرهابنةُ الذين يحبِسون أنفسَهم في الصوامع ويحمِلونها على الرياضات الشاقّة، ولعله ما يُعمهم وغيرَهم من الكفرة، ومحلُّ الموصول الرفعُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ لأنه جوابٌ للسؤال، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الذين.. إلخ، وجعلُه مجرورًا على أنه نعتٌ للأخسرين أو بدلٌ منه أو منصوبًا على الذم على أن الجوابَ ما سيأتي من قوله تعالى: {أولئك} الآية يأباه أن صدرَه ليس مُنْبئًا عن خُسران الأعمالِ وضلالِ السعي كما يستدعيه مقامُ الجواب، والتفريعُ الأولُ وإن دل على حبوطها لكنه ساكتٌ عن إنباء ما هو العُمدةُ في تحقيق معنى الخسرانِ من الوثوق بترتب الربحِ واعتقاد النفعِ فيما صنعوا على أن التفريعَ الثانيَ يقطع ذلك الاحتمالَ رأسًا إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمرِ بقضية نونِ العظمة. {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الإحسانُ الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ وهو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي، أي يحسبَون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائقِ وذلك لإعجابهم بأعمالهم التي سعَوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها، والجملةُ حالٌ من فاعل ضل أي بطل سعيُهم المذكورُ والحالُ أنهم يحسَبون أنهم يُحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره، أو من المضاف إليه لكونه في محل الرفعِ نحوُ قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} أي بطل سعيُهم والحالُ أنهم.. إلخ، والفرقُ بينهما أن المقارِنَ لحال حُسبانِهم المذكورِ في الأول ضلالُ سعيهم وفي الثاني نفسُ سعيهم والأولُ أدخلُ في بيان خطئهم. {أولئك} كلامٌ مستأنفٌ من جنابه تعالى مَسوقٌ لتكميل تعريفِ الأخسرين وتبيينِ سبب خسرانِهم وضلالِ سعيهم وتعيينِهم بحيث ينطبق التعريفُ على المخاطبين غيرُ داخلٍ تحت الأمر، أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي مع الحسبان المزبورِ {الذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ} بدلائله الداعيةِ إلى التوحيد عقلًا ونقلًا، والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ لزيادة تقبيحِ حالِهم في الكفر المذكور {وَلِقَائِهِ} بالبعث وما يتبعه من أمور الآخرة على ما هي عليه {فَحَبِطَتْ} لذلك {أعمالهم} المعهودةُ حبوطًا كليًا {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ} أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمالِ، وقرئ بالياء {يَوْمَ القيامة وَزْنًا} أي فنزدريهم ولا نجعل لهم مقدارًا واعتبارًا لأن مدارَه الأعمالُ الصالحة وقد حبِطت بالمرة، وحيث كان هذا الازدراءُ من عواقب حبوطِ الأعمال عُطف عليه بطريق التفريعِ، وأما ما هو من أجزية الكفرِ فسيجيء بعد ذلك، أو لا نضع لأجل وزنِ أعمالِهم ميزانًا لأنه إنما يوضع لأهل الحسناتِ والسيئاتِ من الموحّدين ليتمَّمَ به مقاديرُ الطاعات والمعاصي ليترتب عليه التكفير أو عدمُه لأن ذلك في الموحدين بطريق الكمية، وأما الكفرُ فإحباطه للحسنات بحسب الكيفيةِ دون الكمية فلا يوضع لهم الميزانُ قطعًا. {ذلك} بيانٌ لمآل كفرهم وسائرِ معاصيهم إثرَ بيان مآلِ أعمالِهم المحبَطة بذلك أي الأمرُ ذلك، وقوله عز وجل: {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ} جملةٌ مبيِّنةٌ له أو ذلك مبتدأٌ والجملةُ خبرُه والعائدُ محذوفٌ، أي جزاؤُهم به أو جزاؤهم بدلَه وجهنمُ خبرُه أو جزاؤهم خبرُه وجهنمُ عطفُ بيانٍ للخبر {بِمَا كَفَرُواْ} تصريحٌ بأن ما ذكر جزاءٌ لكفرهم المتضمن لسائر القبائحِ التي أنبأ عنها قوله تعالى: {واتخذوا ءاياتى وَرُسُلِى هُزُوًا} أي مهزوًّا بهما فإنهم لم يقتنعوا بمجرد الكفرِ بالآيات والرسل، بل ارتكبوا مثلَ تلك العظيمة أيضًا. اهـ. .قال الألوسي: وتعقب بأنه يأبى ذلك أن صدره ليس منبئًا عن خسران الأعمال وضلال السعي كما يستدعيه مقام الجواب والتفريع الأول وإن دل على هبوطها لكنه ساكت عن إنباء بما هو العمدة في تحقيق معنى الخسران من الوثوق بترتب الربح واعتقاد النفع فيما صنعوا على أن التفريغ الثاني مما يقطع ذلك الاحتمال رأسًا إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمر بقضية نون العظمة والجواب عن ذلك لا يتم إلا بتكلف فتأمل {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي أي يعتقدون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائق لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها، والجملة حال من فاعل {ضَلَّ} أي ضل سعيهم المذكور والحال أنهم يحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره أو من المضاف إليه في {سَعْيُهُمْ} لكونه في محل الرفع أي بطل سعيهم والحال أنهم.. إلخ، والفرق بين الوجهين أن المقارن لحال حسبانهم المذكور في الأول ضلال سعيهم، وفي الثاني نفس سعيهم قيل، والأول أدخل في بيان خطئهم، ولا يخفى ما بين يحسبون ويحسنون من تجنيس التصحيف ومثل ذلك قول البحتري: {أولئك} كلام مستأنف من جنابه تعالى مسوق لتكميل تعريف الأخسرين وتبيين خسرانهم وضلال سعيهم وتعيينهم بحيث ينطبق التعريف على المخاطبين غير داخل تحت الأمر كما قيل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي والحسبان المذكور {الذين كَفَرُواْ بآيات رَبّهِمْ} بدلائله سبحانه الداعية إلى التوحيد الشاملة للسمعية والعقلية، وقيل: بالقرآن والأول أولى، والتعرض لعنوان الربوبية لزيادة تقبيح حالهم في الكفر المذكور {وَلِقَائِهِ} هو حقيقة في مقابلة الشيء ومصادفته وليس بمراد، والأكثرون على أنه كناية عن البعث والحشر وما يتبع ذلك من أمور الآخرة أي لم يؤمنوا بذلك على ما هو عليه، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي لقاء عذابه تعالى وليس بذلك {فَحَبِطَتْ} بكسر الباء، وقرأ ابن عباس وأبو السمال بفتحها، والفاء للتفريغ أي فحبطت لذلك {أعمالهم} المعهودة حبوطًا كليًا {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ} أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال {يَوْمَ القيامة وَزْنًا} أي فنزدري بهم ونحتقرهم ولا نجعل لهم مقدارًا واعتبارًا لأن مدار الاعتبار والاعتناء الأعمال الصالحة وقد حبطت بالمرة وحيث كان هذا الازدراء والاحتقار من عواقب حبوط الأعمال عطف عليه بطريق التفريع وأما ما هو من أجزية الكفر فسيجىء إن شاء الله تعالى بعد ذلك، وزعم بعضهم أن حقه على هذا أن يعطف بالواو عطف أحد المتفرعين على الآخر لأن منشأ ازدرائهم الكفر لا الحبوط وبه اعترض على ذلك وهو ناشىء من فرط الذهول كما لا يخفى أو لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانًا لأنها قد حبطت وصارت هباءً منثورًا ونفى هذا بعد الإخبار بحبوطها من قبيل التأكيد بخلاف النفي على المعنى الأول ولذلك رجح عليه وليس من الاعتزال في شيء، وقرأ مجاهد وعبيد بن عمير {فَلا} بالياء لتقدم قوله تعالى: {كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ} وعن عبيد أيضًا {فَلا} بفتح ياء المضارعة كأنه جعل قام متعديًا، وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم {فَلا يا قوم لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} على أن يقوم مضارع قام اللام و{وزن} فاعله. {ذلك} بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم اثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك وهو خبر مبتدأ مذحوف أي الأمر والشأن ذلك وقوله عز وجل: {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ} جملة مفسرة له فلا محل لها من الإعراب، وجوز أن يكون {ذلك} مبتدأ و{جَزَآؤُهُمْ} بدل منه بدل اشتمال أو بدل كل من كل إن كانت الإشارة إلى الجزاء الذي في الذهن و{جَهَنَّمَ} خبره والتذكير وإن كان الخبر مؤنثًا لأن المسار إليه الجزاء ولأن الخبر في الحقيقة للبدل وأن يكون {ذلك} مبتدأ و{جَزَآؤُهُمْ} خبره و{جَهَنَّمَ} عطف بيان للخبر والإرشارة إلى جهنم الحاضرة في الذهن، وأن يكون مبتدأ و{جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ} مبتدأ وخبر خبره له والعائد محذوف والإشارة إلى كفرهم وأعمالهم والتذكير باعتبار ما ذكر أي ذلك جزاؤهم به جهنم، وتعقب بأن العائد المجرور إنكا يكثر حذفه في مثل ذلك إذا جر بحرف بتبعيض أو ظرفية أو جر عائد قبله بمثل ما جر به كقوله: أي به وجوز أبو البقاء أن يكون {ذلك} مبتدأ و{جَزَآؤُهُمْ} بدل أو عطف بيان و{جَهَنَّمَ} بدل من جزاء أو خبر مبتدأ و{جَزَآؤُهُمْ} بدل أو عطف بيان و{جَهَنَّمَ} بدل من جزاء أو خبر مبتدأ محذوف أي هو جهنم وقوله تعالى: {بِمَا كَفَرُواْ} خبر {ذلك} وقال بعد أن ذكر من جوه الإعراب ما ذكر: إنه لا يجوز أن يتعلق الجار بجزاؤهم للفصل بينهما بجهنم، وقيل: الظاهر تعلقه به ولا يضر الفصل في مثل ذلك وهو تصريح بأن ما ذكر جزاء لكفرهم المتضمن لسائر القبائح التي أنبأ عنها قوله تعالى المعطوف على {كفروا واتخذوا ءاياتى وَرُسُلِى هُزُوًا} أي مهزوأ بهما فإنهم لم يقنعوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل عليهم السلام بل ارتكبوا مثل تلك العظيمة أيضًا وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر، والمراد من الآيات قيل المعجزات الظاهرة على أيدي الرسل عليهم السلام والصحف الإلهية المنزلة عليهم عليهم الصلاة والسلام. اهـ.
|