الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.تفسير الآية رقم (225): .مناسبة الآية لما قبلها: .قال البقاعي: ولما كان ذكر المؤاخذة قطعًا لقلوب الخائفين سكنها بقوله مظهرًا موضع الإضمار إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه: {والله} أي مع ما له من العظمة {غفور} أي ستور لذنوب عباده إذا تابوا. ولما كان السياق للمؤاخذة التي هي معالجة كل من المتناظرين لصاحبه بالأخذ كان الحلم أنسب الأشياء لذلك فقال: {حليم} لا يعاجلهم بالأخذ، والحلم احتمال الأعلى للأذى من الأدنى، وهو أيضًا رفع المؤاخذة عن مستحقها بجناية في حق مستعظم- قاله الحرالي. اهـ. .قال أبو حيان: .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا». وأما الرواية فيقال: لغا الطائر يلغو لغوًا إذا صوت، ولغو الطائر تصويته، وأما ورود هذا اللفظ في غير الكلام، فهو أنه يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل: لغو، قال جرير: وقال العجاج: قال الفراء: اللغا، مصدر للغيت، و{اللغو} مصدر للغوت، فهذا ما يتعلق باللغة. اهـ. .قال ابن عاشور: فقد كانت العرب تحلف بالله، وبرب الكعبة، وبالهدي، وبمناسك الحج. والقسم عندهم بحرف من حروف القسم الثلاثة: الواو والباء والتاء، وربما ذكروا لفظ حلفت أو أقسمت، وربما حلفوا بدماء البدن، وربما قالوا والدماءِ، وقد يدخلون لامًا على عَمْر الله، يقال: لَعَمْرُ الله، ويقولون: عمرَك الله، ولم أر أنهم كانوا يحلفون بأسماء الأصنام. فهذا الحلف الذي يراد به التزام فعل، أو براءة من حق. وقد يحلفون بأشياء عزيزة عندهم لقصد تأكيد الخبر أو الالتزام، كقولهم وأبيك ولَعَمْرك ولعمري، ويحلفون بآبائهم، ولما جاء الإسلام نهى عن الحلف بغير الله. ومن عادة العرب في القسم أن بعض القسم يقسمون به على التزام فعل يفعله المقسِم ليُلجئ نفسه إلى عمله ولا يندم عنه، وهو من قبيل قسم النذر، فإذا أراد أحد أن يظهر عزمه على فعل لا محالة منه، ولا مطمع لأحد في صرفه عنه، أكده بالقسم، قال بلعاء بن قيس: أي إذا حلف على أن يقاتل أو يقتل أو نحو ذلك من المصاعب والأضرار ومنه سميت الحرب كريهة فصار نطقهم باليمين مؤذنًا بالغرم، وكثر ذلك في ألسنتهم في أغراض التأْكيد ونحوه، حتى صار يجري ذلك على اللسان كما تجري الكلمات الدالة على المعاني من غير إرادة الحلف، وصارت كثرته في الكلام لا تنحصر، فكثر التحرج من ذلك في الإسلام قال كثيِّر: فأشبهه جريانُ الحلف على اللسان اللغوَ من الكلام. اهـ. .قال الفخر: الأول: قال الشافعي رضي الله عنه: إنه قول العرب: لا والله، وبلى والله، مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف، ولو قيل لواحد منهم: سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك، ولعله قال: لا والله ألف مرة. والثاني: وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه: أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن فهذا هو اللغو، وفائدة هذا الإختلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل لا والله وبلى والله ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك ومذهب الشافعي هو قول عائشة، والشعبي، وعكرمة، وقول أبي حنيفة هو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والنخعي والزهري، وسليمان بن يسار، وقتادة، والسدي، ومكحول، حجة الشافعي رضي الله عنه على قوله وجوه الأول: ما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لغو اليمين قول الرجل في كلامه كلا والله، وبلى والله، ولا والله» وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر بقوم ينتضلون، ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم، فقال: أصبت والله، ثم أخطأ، ثم قال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة» وعن عائشة أنها قالت: أيمان اللغو ماكان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب، وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة. الحجة الثانية: أن قوله: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أيمانكم ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} يدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب، ولكن المراد من قوله: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} هو الذي يقصده الإنسان على الجد ويربط قلبه به، وإذا كان كذلك وجب أن يكون اللغو الذي هو كالمقابل له أن يكون معناه ما لا يقصده الإنسان بالجد، ولا يربط قلبه به، وذلك هو قول الناس على سبيل التعود في الكلام: لا والله بلى والله، فأما إذا حلف على شيء بالجد أنه كان حاصلًا ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك، فلم يكن ذلك لغوًا ألبتة بل كان ذلك حاصلًا بكسب القلب. الحجة الثالثة: أنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم} [البقرة: 224] وقد ذكرنا أن معناه النهي عن كثرة الحلف واليمين، وهؤلاء الذين يقولون على سبيل الاعتياد: لا والله وبلى والله لا شك أنهم يكثرون الحلف، فذكر تعالى عقيب قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم} حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام لا على سبيل القصد إلى الحلف، وبين أنه لا مؤاخذة عليهم، ولا كفارة، لأن إيجاب المؤاخذة والكفارة عليهم يفضي إما إلى أن يمتنعوا عن الكلام، أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرناه هو المناسب لما قبل الآية، فأما الذي قال أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه لا يناسب ما قبل الآية فكان تأويل الشافعي أولى، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه. الحجة الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه» الحديث دل على وجوب الكفارة على الحانث مطلقًا من غير فصل بين المجد والهازل. الحجة الثانية: أن اليمين معنى لا يلحقه الفسخ، فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق، فهاتان الحجتان يوجبان الكفارة في قول الناس: لا والله بلى والله، إذا حصل الحنث، ثم الذي يدل على أن اللغو لا يمكن تفسيره بما قال الشافعي، ويجب تفسيره بما قاله أبو حنيفة أن اليمين في اللغة عبارة عن القوة قال الشاعر: أي بالقوة، والمقصود من اليمين تقوية جانب البر على جانب الحنث بسبب اليمين، وهذا إنما يفعل في الموضع الذي يكون قابلًا للتقوية، وهذا إنما يكون إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل، فأما إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التقوية ألبتة، فعلى هذا اليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة المطلوبة منها، والخالي عن المطلوب يكون لغوًا، فثبت أن اللغو هو اليمين على الماضي، وأما اليمين على المستقبل فهو قابل للتقوية، فلم تكن هذه اليمين خالية عن الغرض المطلوب منها فلا تكون لغوًا. القول الثالث: في تفسير يمين اللغو: هو أنه إذا حلف على ترك طاعة، أو فعل معصية، فهذا هو يمين اللغو وهو المعصية. قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] فبين أنه تعالى لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان، ثم قال: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية، قالوا: وهذا التأويل مناف لقوله عليه السلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر» وهذا التأويل ضعيف من وجهين الأول: هو أن المؤاخذة المذكورة في هذه الآية صارت مفسرة في آية المائدة بقوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] ولما كان المراد بالمؤاخذة إيجاب الكفارة وهاهنا الكفارة واجبة، علمنا أن المراد من الآية ليس هو هذه الصورة الثاني: أنه تعالى جعل المقابل للغو هو كسب القلب، ولا يمكن تفسيره بما ذكره من الإصرار على الشيء الذي حلفوا عليه لأن كسب القلب مشعر بالشروع في فعل جديد، فأما الاستمرار على ما كان فذلك لا يسمى كسب القلب. القول الرابع: في تفسير يمين اللغو: أنها اليمين المكفرة سميت لغوًا لأن الكفارة أسقطت الإثم، فكأنه قيل: لا يؤاخذكم الله باللغو إذا كفرتم، وهذا قول الضحاك. القول الخامس: وهو قول القاضي: أن المراد به ما يقع سهوًا غير مقصود إليه، والدليل عليه قوله تعالى بعد ذلك: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي يؤاخذكم إذا تعمدتم، ومعلوم أن المقابل للعمد هو السهو. اهـ.
|