الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)
.ذكر خلافة ابنه المستنصر بالله: فلما كان أول جمعة أتت على خلافته أراد أن يصلي الجمعة في المقصورة التي كان يصلي فيها الخلفاء، فقيل له إن المطبق الذي يسلك يه إليها خراب لا يمكن سلوكه، فركب فرساً وسار إلى الجامع، جامع القصر، ظاهراً يراه الناس بقميص أبيض وعمامة بيضاء، بسكاكين حرير، ولم يترك أحداً يمشي معه بل أمر كل من أراد أن يمشي معه من أصحابه بالصلاة في الموضع الذي كان يصلي فيه، وسار هو ومعه خادمان وركابدار لا غير، وكذلك الجمعة الثانية حتى أصلح له المطبق. وكان السعر قد تحرك بعد وفاة الظاهر بأمر الله، رضي الله عنه، فبلغت الكارة ثمانية عشر قيراطاً، فأمر أن تباع الغلات التي له كل كارة بثلاثة عشر قيراطاً، فرخصت الأسعار واستقامت الأمور. .ذكر الحرب بين كيقباذ وصاحب آمد: وسبب ذلك ما ذكرناه من اتفاق صاحب آمد مع جلال الدين بن خوارزم شاه والملك المعظم، صاحب دمشق، وغيرهما على خلاف الأشرف؛ فلما رأى الأشرف ذلك أرسل إلى كيقباذ، ملك الروم، وكانا متفقين، يطلب منه أن يقصد بلد صاحب آمد ويحاربه، وكان الأشرف حينئذ على ماردين، فسار ملك الروم إلى ملطية، وهي له، فنزل عندها، وسير العساكر إلى ولاية صاحب آمد، ففتحوا حصن منصور وحصن سمكاراد وغيرهما؛ فلما رآى صاحب آمد ذلك راسل الأشرف، وعاد إلى موافقته، فأرسل الأشرف إلى كيقباذ يعرفه ذلك، ويقول له ليعيد إلى صاحب آمد ما أخذ منه، فلم يفعل، وقال: لم أكن نائباً للأشرف يأمرني وينهاني. فاتفق أن الأشرف سار إلى دمشق ليصلح أخاه الملك المعظم، وأمر العساكر التي له بديار الجزيرة بمساعدة صاحب آمد، إن أصر ملك الروم على قصده، فسارت عساكر الأشرف إلى صاحب آمد وقد جمع عسكره، ومن ببلاده ممن يصلح للحرب وسار إلى عسكر ملك الروم وهم يحاصرون قلعة الكختا بعد الهزيمة، وهي من أمنع الحصون والمعاقل، فلما ملكوها عادوا إلى صاحبها. .ذكر حصر جلال الدين مدينتي آني وقرس: وسار من تفليس مجداً إلى بلاد ابخار وبقايا الكرج، فأوقع بمن فيها، فنهب، وقتل، وسبى، وخرب البلاد وأحرقها، وغنم عساكره ما فيها، وعاد منها إلى تفليس. .ذكر حصر جلال الدين خلاط: ووصل جلال الدين فنازل مدينة ملازكرد يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة، ثم رحل عنها؛ فنازل مدينة خلاط يوم الاثنين خامس عشر ذي القعدة، فلم ينزل حتى زحف إليها، وقاتل أهلها قتالاً شديداً، فوصل عسكره سور البلد، وقتل بينهم قتل كثيرة، ثم زحف إليها مرة ثانية، وقاتل أهل البلد قتالاً عظيماً، فعظمت نكاية العسكر في أهل خلاط، ووصلوا إلى سور البلد، ودخلوا الربض الذي له، ومدوا أيديهم في النهب وسبي الحريم. فلما رأى أهل خلاط ذلك تذامروا، وحرض بعضهم بعضاً، فعادوا إلى العسكر فقاتلوهم فأخرجوهم من البلد، وقتل بينهم خلق كثير، وأسر العسكر الخوارزمي من أمراء خلاط جماعة، وقتل منهم كثير، وترجل الحاجب علي، ووقف في نحر العدو، وأبلى بلاء عظيماً. ثم إن جلال الدين استراح عدة أيام، وعاود الزحف مثل أول يوم، فقاتلوه حتى أبعدوا عسكره عن البلد. وكان أهل خلاط مجدين في القتال، حريصين على المنع عن أنفسهم، لما رأوا من سوء سيرة الخوارزميين ونهبهم البلاد، وما فيهم من الفساد، فهم يقاتلون قتال من يمنع عن نفسه وحريمه وماله، ثم أقام عليها إلى أن اشتد البرد، ونزل شيء من الثلج، فرحل عنها يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة من السنة، وكان سبب رحيله مع خوف الثلج ما بلغه عن التركمان الإيوانية من الفساد ببلاده. .ذكر إيقاع جلال الدين بالتركمان الإيوانية: فلما اشتد ذلك على الناس وعظم الشر أرسلت زوجة جلال الدين ابنة السلطان طغرل ونوابه في البلاد إليه يستغيثون، ويعرفونه أن البلاد قد خربها الإيوانية، ولئن لم يلحقها، وإلا هلكت بالمرة. فاتفق هذا إلى خوف الثلج، فرحل عن خلاط، وجد السير إلى الإيوانية، وهم آمنون مطمئنون، لعلمهم أن خوارزم شاه على خلاط، وظنوا أنه لا يفارقها، فلولا هذا الاعتقاد لصعدوا إلى جبال لهم منيعة شاقة لا يرتقى إليها إلا بمشقة وعناء، فإنهم كانوا إذا خافوا صعدوا إليها وامتنعوا بها، فلم يرعهم إلا والعساكر الجلالية قد أحاطت بهم، وأخذهم السيف من كل جانب، فأكثروا القتل فيهم، والنهب، والسبي، واسترقوا الحريم والأولاد، وأخذوا من عندهم ما لا يدخل تحت الحصر، فرأوا كثيراً من الأمتعة التي أخذوها من التجار بحالها في الشذوات، هذا سوى ما كانوا قد حلوه وفصلوه، فلما فرغ عاد إلى تبريز. .ذكر الصلح بين المعظم والأشراف: ولما رحل الكامل عن دمياط لما كان الفرنج يحصرونها، صادفه أخوه المعظم من الغد، وقويت نفسه، وثبت قدمه، ولولا ذلك لكان الأمر عظيماً، وقد ذكرنا ذلك مفصلاً، ثم إنه عاد من مصر وسار إلى أخيه الأشرف ببلاد الجزيرة مرتين يستنجده على الفرنج، ويحثه على مساعدة أخيهما الكامل، ولم يزل به حتى أخذه وسار إلى مصر، وأزالوا الفرنج، ويحثه على مساعدة أخيهما الكامل، ولم يزل به حتى أخذه وسار إلى مصر، وأزالوا الفرنج عن الديار المصرية، كما ذكرناه قبل، فكان اتفاقهم على الفرنج سبباً لحفظ بلاد الإسلام، وسر الناس أجمعون بذلك. فلما فارق الفرنج مصر وعاد كل من الملوك أولاد العادل إلى بلده بقوا كذلك يسيراً، ثم سار الأشرف إلى أخيه الكامل بمصر، فاجتاز بأخيه المعظم بدمشق، فلم يستصحبه معه، وأطال المقام بمصر، فلا شك أن المعظم ساءه ذلك. ثم إن المعظم سار إلى مدينة حماة وحصرها، فأرسل إليه أخو من مصر ورحلاه عنها كارهاً، فازداد نفوراً، وقيل: إنه نقل إليه عنهما أنهما اتفقا عليه، والله أعلم بذلك. ثم انضاف إلى ذلك أن الخليفة الناصر لدين الله، رضي الله عنه، كان قد استوحش من الكامل لما فعله ولده صاحب اليمن من الاستهانة بأمير الحاج العراقي، فأعرض عنه وعن أخيه الأشرف لاتفاقهما، وقاطعهما، وراسل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي، صاحب إربل، يعلمه بانحرافه عن الأشرف، واستماله، واتفقا على مراسلة المعظم، وتعظيم الأمر عليه، فمال إليهما، وانحرف عن إخوته. ثم اتفق ظهور جلال الدين وكثرة ملكه، فاشتد الأمر على الأشرف بمجاورة جلال الدين خوارزم شاه ولاية خلاط، ولأن المعظم بدمشق يمنع عنه عساكر مصر أن تصل إليه، وكذلك عساكر حلب وغيرها من الشام، فرأى الأشرف أن يسير إلى أخيه المعظم بدمشق، فسار إليه في شوال واستماله وأصلحه، فلما سمع الكامل بذلك عظم عليه؛ ثم إنها راسلاه، أعلماه بنزول جلال الدين على خلاط، وعظما الأمر عليه، وأعلماه أن هذه الحال تقتضي الاتفاق لعمارة البيت العادلي، وانقضت السنة والأشرف بدمشق والناس عل مواضعهم ينتظرون خروج الشتاء ما يكون من الخوارزميين، وسنذكر ما يكون سنة أربع وعشرين وستمائة إن شاء الله تعالى. .ذكر الفتنة بين الفرنج والأرمن: وسبب ذلك أن ابن ليون الأرمني، صاحب الدروب، توفي قبل ولم يخلف ولداً ذكراً، إنما خلف بنتاً، فملكها الأرمن عليهم، ثم علموا أن الملك لا يقوم بامرأة، فزوجوها من ولد البرنس، فتزوجها، وانتقل إلى بلدهم، واستقر في الملك نحو سنة، ثم ندموا على ذلك، وخافوا أن يستولي الفرنج على بلادهم، فثاروا بابن البرنس، فقبضوا عليه وسجنوه، فأرسل أبوه يطلب أن يطلق ويعاد في الملك، فلم يفعلوا، فأرسل إلى بابا ملك الفرنج برومية الكبرى يستأذنه في قصد بلادهم، وملك رومية هذا أمره عند الفرنج لا يخالف، فمنعه عنهم، وقال: إنهم أهل ملتنا، ولا يجوز قصد بلادهم، فخالفه وأرسل إلى علاء الدين كيقباذ ملك قونية وملطية وما بينهما من بلاد المسلمين، وصالحه، ووافقه على قصد بلاد ابن ليون، والاتفاق على قصدها، فاتفقا على ذلك، وجمع البرنس عساكره ليسير إلى بلاد الأرمن، فخالف عليه الداوية والاسبتارية، وهما جمرة الفرنج، فقالوا: إن ملك رومية نهانا عن ذلك؛ إلا أنه أطاعه غيرهم، فدخل أطراف بلاد الأرمن، وهي مضايق وجبال وعرة، فلم يتمكن من فعل ما يريد. وأما كيكاوس، فإنه قصد بلاد الأمن من جهته، وهي أسهل من جهة الشام، فدخلها سنة اثنتين وعشرين وستمائة، فنهبها، وأحرقها، وحصر عدة حصون، ففتح أربعة حصون، وأدركه الشتاء فعاد عنها. فلما سمع بابا ملك الفرنج برومية أرسل إلى الفرنج بالشام يعلمهم أنه قد حرم البرنس، فكان الداوية والاسبتارية وكثير من الفرسان لا يحضرون معه، ولا يسمعون قوله؛ وكان أهل بلاده، وهي أنطاكية وطرابلس، إذا جاءهم عيد يخرج من عندهم، فإذا فرغوا من عيدهم دخل البلد. ثم إنه أرسل إلى ملك رومية يشكو من الأرمن، وأنهم لم يطلقوا ولده، ويستأذنه في أن يدخل بلادهم ويحاربهم إن لم يطلقوا ابنه، فأرسل إلى الأرمن يأمرهم بإطلاق ابنه وإعادته إلى الملك، فإن فعلوا وإلا فقد أذن له في قصد بلادهم؛ فلما بلغتهم الرسالة لم يطلقوا ولده، فجمع البرنس وقصد بلاد الأرمن، فأسل الأرمن إلى الأتابك شهاب الدين بحلب يستنجدونه، ويخوفونه من البرنس وقصد بلاد الأرمن، فأرسل الأرمن إلى الأتابك شهاب الدين بحلب يستنجدونه، ويخفونه من البرنس إن استولى على بلادهم لأنها تجاور أعمال حلب، فأمدهم بجند وسلاح. فلما سمع البرنس ذلك صمم العزم على قصد بلادهم، فسار إليهم وحاربهم، فلم يحصل على غرض، فعاد عنهم. حدثني بهذا رجل من عقلاء النصارى ممن دخل تلك البلاد وعرف حالها، وسألت غيره، فعرف البعض وأنكر البعض. .ذكر عدة حوادث: وفيها كثيرت الذئاب والخنازير والحيات، فقتل كثير، فقد بلغني أن ذئباً دخل الموصل فقتل فيها، وحدثني صديق لنا له بستان بظاهر الموصل أنه قتل فيه، في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، جميع الصيف حيتين، وقتل هذه السنة إلى أول حزيران سبع حيات لكثرتها. وفيها انقطع المطر بالموصل وأكثر البلاد الجزرية من خامس شباط إلى ثاني عشر نيسان، ولم يجر شيء يعتد به، لكنه سقط اليسير منه في بعض القرى، فجاءت الغلات قليلة، ثم خرج الجراد الكثير، فازداد الناس أذى، وكانت الأسعار قد صلحت شيئاً، فعاد لكثرة الجراد فغلت، ونزل أيضاً في أكثر القرى برد كبير أهلك زروع أهلها وأفسدها، واختلفت أقاويل الناس في أكبره، كان وزن بردة مائتي درهم، وقيل رطل، وقيل غير ذلك، إلا أنه أهلك كثيراً من الحيوان، وانقضت هذه السنة والغلاء باق وأشده بالموصل. وفيها اصطاد صديق لنا أرنباً فرآه وله أنثيان وذكر وفرج أنثى، فلما شقوا بطنها رأوا فيها حريفين، سمعت هذا منه ومن جماعة كانوا معه، وقالوا: ما زلنا نسمع أن الأرنب يكون سنة ذكراً وسنة أنثى، ولا نصدق ذلك، فلما رأينا هذا علمنا أنه قد حمل، وهو أنثى، وانقضت السنة فصار ذكراً، فإن كان كذلك وإلا فيكون في الأرانب كالخنثى في بني آدم، يكون لأحدهم فرج الرجل وفرج الأنثى، كما أن الأرنب تحيض كما تحيض النساء، فإني كنت بالجزيرة، ولنا جار له بنت اسمها صفية، فبقيت كذلك نحو خمس عشرة سنة، وإذا قد طلع لها ذكر رجل، ونبتت لحيته، فكان له فرج امرأة وذكر رجل. وفيها ذبح إنسان عندنا رأس غنم، فوجد لحمه مراً شديد المرارة، حتى رأسه وأكارعه ومعلاقه وجميع أجزائه، وهذا ما لم يسمع بمثله. وفيها يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذي القعدة، ضحوة النهار، زلزلت الأرض بالموصل وكثير من البلاد العربية والعجمية، وكان أكثرها بشهرزور، فإنها خرب أكثرها، ولا سيما القلعة، فإنها أجحفت بها؛ وخرب من تلك الناحية ست قلاع، وبقيت الزلزلة تتردد فيها نيفاً ثلاثين يوماً، ثم كشفها الله عنهم؛ وأما القرى بتلك الناحية فخرب أكثرها. وفيها، في رجب، توفي القاضي الحاج أبو المظفر بن عبد القاهر بن الحسن بن علي بن القاسم الشهرزوري، قاضي الموصل، بها، وكان قد أضر قبل وفاته بنحو سنتين، وكان عالماً بالقضاء، عفيفاً، نزهاً، ذا رئاسة كبيرة، وله صلات دارة للمقيم والوارد، رحمه الله، فلقد كان من محاسن الدنيا، ولم يخلف غير بنت توفيت بعده بثلاثة أشهر. ثم دخلت: .سنة أربع وعشرين وستمائة: .ذكر دخول الكرج مدينة تفليس وإحراقه: وأما جلال الدين فإنه لما بلغه الخبر سار فيمن عنده من العساكر ليدركهم، فلم ير منهم أحداً، كانوا قد فارقوا تفليس لما أحرقوها. .ذكر نهب جلال الدين بلد الإسماعيلية: فلما قتل ذلك الأمير عظم قتله على جلال الدين، واشتد عليه، فسار في عساكره إلى بلاد الإسماعيلية، من حدود الموت إلى كردكوه بخراسان، فخرب الجميع، وقتل أهلها، ونهب الأموال، وسبى الحريم، واسترق الأولاد، وقتل الرجال، وعمل بهم الأعمال العظيمة، وانتقم منهم؛ وكانوا قد عظم شرهم وازداد ضرهم، وطمعوا مذ خرج التتر إلى بلاد الإسلام إلى الآن، فكف عاديتهم وقمعهم، ولقاهم الله ما عملوا بالمسلمين. .ذكر الحب بين جلال الدين والتتر: .ذكر دخول العساكر الأشرفية إلى أذربيجان وملك بعضها: وسبب ذلك أن سيرة جلال الدين كانت جائرة، وعساكره طامعة في الرعايا، وكانت زوجته ابنة السلطان طغرل السلجوقي، وهي التي كانت زوجة أوزبك بن البهلوان، صاحب أذربيجان، فتزوجها جلال الدين، كما ذكرناه قبل، وكانت مع أوزبك تحكم في البلاد جميعها، ليس له ولا لغيره معها حكم. فلما تزوجها جلال الدين أهملها ولم يلتفت إليها، فخافته مع ما حرمته من الحكم والأمر والنهي، فأسلت هي وأهل خوي إلى حسام الدين الحاجب يستدعونه ليسلموا البلاد، فسار ودخل البلاد، بلاد أذربيجان، فملك مدينة خوي وما يجاورها من الحصون التي بيد امرأة جلال الدين، وملك مرند، وكاتبه أهل مدينة نقجوان، فمضى إليهم، فسلموها إليه، وقويت شوكتهم بتلك البلاد، ولو داموا لملكوها جميعها، وإنما عادوا إلى خلاط، واستصحبوا معهم زوجة جلال الدين ابنة السلطان طغرل إلى خلاط، وسنذكر باقي خبرهم سنة خمس وعشرين إن شاء الله تعالى. .ذكر وفاة المعظم صاحب دمشق وملك ولده: وكان عالماً بعدة علوم، فاضلاً فيها، منها الفقه على مذهب أبي حنيفة، فإنه كان قد اشتغل به كثيراً، وصار من المتيزين فيه، ومنها علم النحو، فإنه اشتغل به أيضاً اشتغالاً زائداً، وصار فيه فاضلاً، وكذلك اللغة وغيرها، وكان قد أمر أن يجمع له كتاب في اللغة جامع كبير، فيه كتاب الصحاح للجوهري، ويضاف إليه ما فات الصحاح من التهذيب للأرموي والجمهرة لابن دريد وغيرهما، وكذلك أيضاً أمر بأن يرتب مسند أحمد بن حنبل على الأبواب، ويرد كل حديث إلى الباب الذي يقتضيه معناه، مثاله: أن يجمع أحاديث الطهارة، وكذلك يفعل في الصلاة وغيرها من الرقائق، والتفسير، والغزوات، فيكون كتاباً جامعاً. وكان قد سمع المسند من بعض أصحاب ابن الحصين، ونفق العلم في سوقه، وقصده العلماء من الآفاق، فأكرمهم، وأجرى عليهم الجرايات الوافرة، وقربهم، وكان يجالسهم، ويستفيد منهم، ويفيدهم، وكان يرجع إلى علم وصبر على سماع ما يكره، لم يسمع أحد ممن يصحبه منه كلمة تسوءه. وكان حسن الاعتقاد يقول كثيراً: إن اعتقادي في الأصول ما سطره أبو جعفر الطحاوي؛ ووصى عند موته بأن يكفن في البياض، ولا يجعل في أكفانه ثوب فيه ذهب، وأن يدفن في لحد، ولا يبنى عليه بناء بل يكون قبره في الصحراء تحت السماء، ويقول في مرضه: لي عند الله تعالى في أمر دمياط ما أرجو أن يرحمني به. ولما توفي ولي بعده ابنه داود ويلقب الملك الناصر، وكان عمره قد قارب عشرين سنة.
|