الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب وُجُوبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ شَرْعًا دُونَ مَا ذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا: قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْل خَبَرًا، وَإِنَّمَا كَانَ ظَنًّا كَمَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَات. قَالُوا: وَرَأْيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمُور الْمَعَايِش وَظَنّه كَغَيْرِهِ، فَلَا يُمْتَنَعُ وُقُوع مِثْل هَذَا، وَلَا نَقْص فِي ذَلِكَ، وَسَبَبه تَعَلُّق هِمَمهمْ بِالْآخِرَةِ وَمَعَارِفهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. 4356- قَوْله: (يُلَقِّحُونَهُ) هُوَ بِمَعْنَى يَأْبُرُونَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَمَعْنَاهُ إِدْخَال شَيْء مِنْ طَلْع الذَّكَرِ فِي طَلْع الْأُنْثَى فَتَعَلَّقَ بِإِذْنِ اللَّه. 4357- قَوْله: (حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن جَعْفَر الْمَعْقِرِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَكَسْر الْقَاف مَنْسُوب إِلَى مَعْقِر وَهِيَ نَاحِيَة مِنْ الْيَمَن. و: «يَأْبُرُونَ» بِكَسْرِ الْبَاء وَضَمّهَا. يُقَالُ مِنْهُ: أَبَرَ يَأْبُرُ وَيَأْبِرُ كَبَذَرَ يَبْذُرُ وَيَبْذِرُ، وَيُقَالُ: أَبَّرَ يُؤَبِّرُ بِالتَّشْدِيدِ تَأْبِيرًا. قَوْله: «فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ» هُوَ بِفَتْحِ الْحُرُوف كُلّهَا، وَالْأَوَّل بِالْفَاءِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، وَالثَّانِي بِالْقَافِ وَالْمُهْمَلَة. وَأَمَّا قَوْله فِي آخِر الْحَدِيث: (قَالَ الْمَعْقِرِيّ: فَنَفَضَتْ) بِالْفَاءِ وَالْمُعْجَمَة، وَمَعْنَاهُ أَسْقَطَتْ تَمْرهَا. قَالَ أَهْل اللُّغَة: وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْمُتَسَاقِط النَّفَض بِفَتْحِ النُّون وَالْفَاء بِمَعْنَى الْمَنْفُوض، كَالْخَبَطِ بِمَعْنَى الْمَخْبُوط. وَأَنْفَضَ الْقَوْم فَنِيَ زَادُهُمْ. 4358- قَوْله: «فَخَرَجَ شِيصًا» هُوَ بِكَسْرِ الشِّين الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحْت وَبِصَادٍ مُهْمَلَة، وَهُوَ الْبُسْر الرَّدِيء الَّذِي إِذَا يَبِسَ صَارَ حَشَفًا، وَقِيلَ: أَرْدَأ الْبُسْر، وَقِيلَ: تَمْر رَدِيء، وَهُوَ مُتَقَارِب. .باب فَضْلِ النَّظَرِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَنِّيهِ: وَأَمَّا لَفْظَة: «مَعَهُمْ» فَعَلَى ظَاهِرهَا، وَفِي مَوْضِعهَا، وَتَقْدِير الْكَلَام: يَأْتِي عَلَى أَحَدكُمْ يَوْم لَأَنْ يَرَانِي فيه لَحْظَة ثُمَّ لَا يَرَانِي بَعْدهَا أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْله وَمَاله جَمِيعًا. وَمَقْصُود الْحَدِيث حَثّهمْ عَلَى مُلَازَمَة مَجْلِسه الْكَرِيم وَمُشَاهَدَته حَضَرًا وَسَفَرًا لِلتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ، وَتَعَلُّم الشَّرَائِع وَحِفْظهَا لِيُبَلِّغُوهَا، وَإِعْلَامهمْ أَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فيه مِنْ الزِّيَادَة مِنْ مُشَاهَدَته وَمُلَازَمَته. وَمِنْهُ قَوْل عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْق بِالْأَسْوَاقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .باب فَضَائِلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: وَأَمَّا الْإِخْوَة مِنْ الْأَبَوَيْنِ فَيُقَال لَهُمْ أَوْلَاد الْأَعْيَان. قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء: مَعْنَى الْحَدِيث أَصْل إِيمَانهمْ وَاحِد، وَشَرَائِعهمْ مُخْتَلِفَة، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي أُصُول التَّوْحِيد، وَأَمَّا فُرُوع الشَّرَائِع فَوَقَعَ فيها الِاخْتِلَاف. 4361- سبق شرحه بالباب. 4362- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَدِينهمْ وَاحِد» فَالْمُرَاد بِهِ أُصُول التَّوْحِيد، وَأَصْل طَاعَة اللَّه تَعَالَى، وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ صِفَتهَا، وَأُصُول التَّوْحِيد وَالطَّاعَة جَمِيعًا. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى النَّاس بِعِيسَى» فَمَعْنَاهُ أَخَصّ بِهِ لِمَا ذَكَرَهُ. 4363- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُود يُولَدُ إِلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَان فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَان إِلَّا اِبْن مَرْيَم وَأُمّه» هَذِهِ فَضِيلَة ظَاهِرَة، وَظَاهِر الْحَدِيث اِخْتِصَاصهَا بِعِيسَى وَأُمّه، وَاخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاض أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء يُشَارِكُونَ فيها. 4365- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِيَاح الْمَوْلُود حِين يَقَع نَزْغَة مِنْ الشَّيْطَان» أَيْ حِين يَسْقُطُ مِنْ بَطْن أُمّه، وَمَعْنَى نَزْغَة نَخْسَة وَطَعْنَة، مِنْهُ قَوْله: نَزَغَهُ بِكَلِمَةِ سُوء أَيْ رَمَاهُ بِهَا. 4366- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَى عِيسَى رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ عِيسَى: سَرَقْت قَالَ: كَلَّا وَاَلَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، فَقَالَ عِيسَى: آمَنْت بِاَللَّهِ، وَكَذَّبْت نَفْسِي» قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِر الْكَلَام صَدَّقْت مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَّبْت مَا ظَهَرَ لِي مِنْ ظَاهِر سَرِقَتِهِ، فَلَعَلَّهُ أَخَذَ مَاله فيه حَقٌّ، أَوْ بِإِذْنِ صَاحِبه، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْغَصْب وَالِاسْتِيلَاء، أَوْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ مَدِّ يَده أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا، فَلَمَّا حَلَفَ لَهُ أَسْقَطَ ظَنَّهُ، وَرَجَعَ عَنْهُ. .باب مِنْ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 4368- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُخْتُتِنَ إِبْرَاهِيم النَّبِيّ، وَهُوَ اِبْن ثَمَانِينَ سَنَة بِالْقَدُومِ»، رُوَاة مُسْلِم مُتَّفِقُونَ عَلَى تَخْفِيف (الْقَدُوم). وَوَقَعَ فِي رِوَايَات الْبُخَارِيّ الْخِلَاف فِي تَشْدِيده وَتَخْفِيفه. قَالُوا: وَآلَة النَّجَّار يُقَالُ لَهَا قَدُوم بِالتَّخْفِيفِ لَا غَيْرُ. وَأَمَّا (الْقَدُوم) مَكَان بِالشَّامِّ فَفيه التَّخْفِيف. فَمَنْ رَوَاهُ بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ الْقَرْيَة، وَمَنْ رَوَاهُ بِالتَّخْفِيفِ تُحْتَمَلُ الْقَرْيَة وَالْآلَة، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى التَّخْفِيف، وَعَلَى إِرَادَة الْآلَة. وَهَذَا الَّذِي وَقَعَ هُنَا: وَهُوَ اِبْن ثَمَانِينَ سَنَةً هُوَ الصَّحِيح، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأ: وَهُوَ اِبْن مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَة، وَهُوَ مُتَأَوَّلٌ، أَوْ مَرْدُود. وَسَبَقَ بَيَان حُكْم الْخِتَان فِي أَوَائِل كِتَاب الطَّهَارَة فِي خِصَال الْفِطْرَة. 4369- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَحَقّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيم» إِلَى آخِره. هَذَا الْحَدِيث سَبَقَ شَرْحُهُ وَاضِحًا فِي كِتَاب الْإِيمَان. 4370- هَذَا الْحَدِيث سَبَقَ شَرْحه وَاضِحًا فِي كِتَاب الْإِيمَان. 4371- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا ثَلَاث كَذَبَات: ثِنْتَيْنِ فِي ذَات اللَّه تَعَالَى: قَوْله إِنِّي سَقِيم، وَقَوْله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَوَاحِدَة فِي شَأْن سَارَة وَهِيَ قَوْله: إِنْ سَأَلَك فَأَخْبِرِيهِ أَنَّك أُخْتِي، فَإِنَّك أُخْتِي فِي الْإِسْلَام»، قَالَ الْمَازِرِيّ: أَمَّا الْكَذِب فِيمَا طَرِيقه الْبَلَاغ عَنْ اللَّه تَعَالَى فَالْأَنْبِيَاء مَعْصُومُونَ مِنْهُ، سَوَاء كَثِيره وَقَلِيله، وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ، وَيُعَدُّ مِنْ الصِّفَات كَالْكَذْبَةِ الْوَاحِدَة فِي حَقِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَفِي إِمْكَان وُقُوعه مِنْهُمْ وَعِصْمَتِهِمْ مِنْهُ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَف. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الصَّحِيح أَنَّ الْكَذِب فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعه مِنْهُمْ، سَوَاء جَوَّزْنَا الصَّغَائِر مِنْهُمْ وَعِصْمَتهمْ مِنْهُ، أَمْ لَا، وَسَوَاء قَلَّ الْكَذِب، أَمْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَرْتَفِعُ عَنْهُ، وَتَجْوِيزه يَرْفَعُ الْوُثُوق بِأَقْوَالِهِمْ. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثِنْتَيْنِ فِي ذَات اللَّه تَعَالَى وَوَاحِدَة فِي شَأْن سَارَة» فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْكَذَبَات الْمَذْكُورَة إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْم الْمُخَاطَب وَالسَّامِع، وَأَمَّا فِي نَفْس الْأَمْر فَلَيْسَتْ كَذِبًا مَذْمُومًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ وَرَّى بِهَا، فَقَالَ فِي سَارَة: أُخْتِي فِي الْإِسْلَام، وَهُوَ صَحِيح فِي بَاطِن الْأَمْر، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى تَأْوِيل اللَّفْظَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَالْوَجْه الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَا تَوْرِيَةَ فيه لَكَانَ جَائِزًا فِي دَفْع الظَّالِمِينَ، وَقَدْ اِتَّفَقَ الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ ظَالِم يَطْلُب إِنْسَانًا مُخْتَفِيًا لِيَقْتُلَهُ، أَوْ يَطْلُب وَدِيعَة لِإِنْسَانٍ لِيَأْخُذَهَا غَصْبًا، وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِخْفَاؤُهُ وَإِنْكَار الْعِلْم بِهِ، وَهَذَا كَذِب جَائِز، بَلْ وَاجِب لِكَوْنِهِ فِي دَفْع الظَّالِم، فَنَبَّهَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَذَبَات لَيْسَتْ دَاخِلَة فِي مُطْلَق الْكَذِب الْمَذْمُوم. قَالَ الْمَازِرِيّ: وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضهمْ هَذِهِ الْكَلِمَات، وَأَخْرَجَهَا عَنْ كَوْنهَا كَذِبًا، قَالَ: وَلَا مَعْنَى لِلِامْتِنَاعِ مِنْ إِطْلَاق لَفْظ أَطْلَقَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت: أَمَّا إِطْلَاق لَفْظ الْكَذِب عَلَيْهَا فَلَا يُمْتَنَعُ لِوُرُودِ الْحَدِيث بِهِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهَا فَصَحِيحٌ لَا مَانِع مِنْهُ. قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْوَاحِدَة الَّتِي فِي شَأْن سَارَة هِيَ أَيْضًا فِي ذَات اللَّه تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ دَفْعِ كَافِرٍ ظَالِمٍ عَنْ مُوَاقَعَة فَاحِشَة عَظِيمَة، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي غَيْر مُسْلِم، فَقَالَ: مَا فيها كَذْبَة إِلَّا بِمَا حَلَّ بِهَا عَنْ الْإِسْلَام أَيْ يُجَادِلُ وَيُدَافِعُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا خَصَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا فِي ذَات اللَّه تَعَالَى لِكَوْنِ الثَّالِثَة تَضَمَّنَتْ نَفْعًا لَهُ، وَحَظًّا مَعَ كَوْنهَا فِي ذَات اللَّه تَعَالَى. وَذَكَرُوا فِي قَوْله: «إِنِّي سَقِيمٌ» أَيْ سَأَسْقُمُ لِأَنَّ الْإِنْسَان عُرْضَة لِلْأَسْقَامِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الِاعْتِذَار عَنْ الْخُرُوج مَعَهُمْ إِلَى عِيدهمْ، وَشُهُود بَاطِلهمْ وَكُفْرهمْ. وَقِيلَ: سَقِيم بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنْ الْمَوْت. وَقِيلَ: كَانَتْ تَأْخُذُهُ الْحُمَّى فِي ذَلِكَ الْوَقْت. وَأَمَّا قَوْله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» فَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة وَطَائِفَة: جُعْل النُّطْق شَرْطًا لِفِعْلِ كَبِيرهمْ، أَيْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ. وَقَالَ الْكَسَائِيّ: يُوقَفُ عِنْد قَوْله: بَلْ فَعَلَهُ أَيْ فَعَلَهُ فَاعِله، فَأَضْمَرَ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ: كَبِيرُهُمْ هَذَا، فَاسْأَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْفَاعِل. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا عَلَى ظَاهِرهَا، وَجَوَابهَا مَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْله: «فَلَك اللَّهُ» أَيْ شَاهِدًا وَضَامِنًا أَنْ لَا أَضُرَّك. قَوْله: (مَهْيَم) بِفَتْحِ الْمِيم وَالْيَاء وَإِسْكَان الْهَاء بَيْنهمَا أَيْ مَا شَأْنُك وَمَا خَبَرُك؟ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ لِأَكْثَر الرُّوَاة (مَهِيمًا) بِالْأَلْفِ، وَالْأَوَّل أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ. قَوْلهَا: «وَأَخْدَمَ خَادِمًا» أَيْ وَهَبَنِي خَادِمًا، وَهِيَ هَاجَرَ، وَيُقَال: آجَرَ بِمَدِّ الْأَلْف. وَالْخَادِمُ يَقَع عَلَى الذَّكَر وَالْأُنْثَى. قَوْله: «قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاء السَّمَاء» قَالَ كَثِيرُونَ: الْمُرَاد بِبَنِي مَاء السَّمَاء الْعَرَب كُلّهمْ، لِخُلُوصِ نَسَبِهِمْ، وَصَفَائِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ أَكْثَرهمْ أَصْحَاب مَوَاشِي، وَعَيْشهمْ مِنْ الْمَرْعَى وَالْخِصْب، وَمَا يَنْبُتُ بِمَاءِ السَّمَاء. وَقَالَ الْقَاضِي: الْأَظْهَر عِنْدِي أَنَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ الْأَنْصَار خَاصَّة، وَنِسْبَتُهُمْ إِلَى جَدّهمْ عَامِر بْن حَارِثَة بْن اِمْرِئِ الْقَيْس بْن ثَعْلَبَة بْن مَازِن بْن الْأَدَد وَكَانَ يُعْرَفُ بِمَاءِ السَّمَاء، وَهُوَ الْمَشْهُور بِذَلِكَ، وَالْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ مِنْ وَلَد حَارِثَة بْن ثَعْلَبَة بْن عَمْرو بْن عَامِر الْمَذْكُور. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِإِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. .باب مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَمَعَ الْحَجَر أَيْ ذَهَبَ مُسْرِعًا إِسْرَاعًا بَلِيغًا. وَطَفِقَ ضَرْبًا أَيْ جَعَلَ يَضْرِبُ، يُقَالُ: طَفِقَ يَفْعَلُ كَذَا. وَطَفِقَ بِكَسْرِ الْفَاء وَفَتْحهَا. وَجَمَلَ وَأَخَذَ وَأَقْبَلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَمَّا النَّدَب فَهُوَ بِفَتْحِ النُّون وَالدَّال وَأَصْله أَثَر الْجُرْح إِذَا لَمْ يَرْتَفِعْ عَنْ الْجِلْدِ. وَقَوْله: «ثَوْبِي حَجَر» أَيْ دَعْ ثَوْبِي يَا حَجَرُ. 4373- قَوْله: «فَاغْتَسَلَ عِنْد مُوَيْهٍ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا وَمُعْظَم غَيْرهَا: (مُوَيْه) بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الْوَاو وَإِسْكَان الْيَاء، وَهُوَ تَصْغِيرُ مَاءٍ، وَأَصْله (مَوْه)، وَالتَّصْغِير يَرُدُّ الْأَشْيَاء إِلَى أُصُولهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: وَقَعَ فِي بَعْض الرِّوَايَات (مُوَيْه) كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِي مُعْظَمهَا (مَشْرَبَة) بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الشِّين، وَهِيَ حُفْرَةٌ فِي أَصْل النَّخْلَة يُجْمَعُ الْمَاءُ فيها لِسَقْيِهَا. قَالَ الْقَاضِي: وَأَظُنُّ الْأَوَّل تَصْحِيفًا كَمَا سَبَقَ- وَاَللَّه أَعْلَم. وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد: مِنْهَا أَنَّ فيه مُعْجِزَتَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ لِمُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَاهُمَا مَشْي الْحَجْر بِثَوْبِهِ إِلَى مَلَأ بَنِي إِسْرَائِيل، وَالثَّانِيَة حُصُول النَّدَب فِي الْحَجَر، وَمِنْهَا وُجُود التَّمْيِيز فِي الْجَمَاد كَالْحَجَرِ وَنَحْوه، وَمِثْله تَسْلِيم الْحَجَر بِمَكَّة، وَحَنِين الْجِذْع، وَنَظَائِره، وَسَبَقَ قَرِيبًا بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة مَبْسُوطَة. وَمِنْهَا جَوَاز الْغُسْل عُرْيَانًا فِي الْخَلْوَة، وَإِنْ كَانَ سَتْر الْعَوْرَة أَفْضَل، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَخَالَفَهُمْ اِبْن أَبِي لَيْلَى: وَقَالَ: إِنَّ لِلْمَاءِ سَاكِنًا، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثٍ ضَعِيف. وَمِنْهَا مَا اُبْتُلِيَ بِهِ الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَذَى السُّفَهَاء وَالْجُهَّال، وَصَبْرهمْ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا مَا قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْره أَنَّ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ النَّقَائِص فِي الْخَلْق وَالْخُلُق، سَالِمُونَ مِنْ الْعَاهَات وَالْمَعَايِب، قَالُوا: وَلَا اِلْتِفَات إِلَى مَا قَالَهُ مَنْ لَا تَحْقِيق لَهُ مِنْ أَهْل التَّارِيخ فِي إِضَافَة بَعْض الْعَاهَات إِلَى بَعْضهمْ، بَلْ نَزَّهَهُمْ اللَّه تَعَالَى مِنْ كُلّ عَيْب، وَكُلّ شَيْء يُبَغِّضُ الْعُيُون، أَوْ يُنَفِّرُ الْقُلُوب. 4374- قَوْله: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: أُرْسِلَ مَلَك الْمَوْت إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَفَقَأَ عَيْنه، فَرَجَعَ إِلَى رَبّه قَفَّال: أَرْسَلْتنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْت. قَالَ: فَرَدَّ اللَّه إِلَيْهِ عَيْنه، وَقَالَ: اِرْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَع يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَده بِكُلِّ شَعْرَة سَنَة. قَالَ: أَيْ رَبّ ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْت. قَالَ: فَالْآن، فَسَأَلَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الْأَرْض الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَوْ كُنْت ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِب الطَّرِيق تَحْت الْكَثِيب الْأَحْمَر» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَاءَ مَلَك الْمَوْت إِلَى مُوسَى فَقَالَ: أَجِبْ رَبّك، فَلَطَمَ مُوسَى عَيْن مَلَك الْمَوْت فَفَقَأَهَا» وَذَكَرَ نَحْو مَا سَبَقَ. أَمَّا قَوْله: (صَكَّهُ) فَهُوَ بِمَعْنَى (لَطَمَهُ) فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة. وَفَقَأَ عَيْنه بِالْهَمْزِ. وَمَتْن الثَّوْر ظَهْرُهُ. وَرَمْيَة حَجَر أَيْ قَدْر مَا يَبْلُغُهُ. وَقَوْله: (ثَمَّ مَهْ) هِيَ هَاء السَّكْت، وَهُوَ اِسْتِفْهَامٌ، أَيْ ثُمَّ مَاذَا يَكُون أَحَيَاة أَمْ مَوْت؟ وَالْكَثِيب الرَّمَل الْمُسْتَطِيل الْمُحْدَوْدَب. وَأَمَّا سُؤَاله الْإِدْنَاء مِنْ الْأَرْض الْمُقَدَّسَة فَلِشَرَفِهَا وَفَضِيلَة مَنْ فيها مِنْ الْمَدْفُونِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاء وَغَيْرهمْ. قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا سَأَلَ الْإِدْنَاء، وَلَمْ يَسْأَلْ نَفْس بَيْت الْمَقْدِس، لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُون قَبْره مَشْهُورًا عِنْدهمْ فَيَفْتَتِن بِهِ النَّاس وَفِي هَذَا اِسْتِحْبَاب الدَّفْن فِي الْمَوَاضِع الْفَاضِلَة وَالْمَوَاطِن الْمُبَارَكَة، وَالْقُرْب مِنْ مَدَافِن الصَّالِحِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمَازِرِيّ: وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْض الْمَلَاحِدَة هَذَا الْحَدِيث، وَأَنْكَرَ تَصَوُّره، قَالُوا كَيْف يَجُوزُ عَلَى مُوسَى فَقْء عَيْن مَلَك الْمَوْت؟ قَالَ: وَأَجَابَ الْعُلَمَاء عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدهَا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِع أَنْ يَكُونَ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ اللَّه تَعَالَى لَهُ فِي هَذِهِ اللَّطْمَة، وَيَكُون ذَلِكَ اِمْتِحَانًا لِلْمَلْطُومِ، وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى يَفْعَلُ فِي خَلْقه مَا شَاءَ، وَيَمْتَحِنُهُمْ بِمَا أَرَادَ. وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا عَلَى الْمَجَاز، وَالْمُرَاد أَنَّ مُوسَى نَاظَرَهُ وَحَاجَّهُ فَغَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ، وَيُقَالُ: فَقَأَ فُلَان عَيْن فُلَان إِذَا غَالَبَهُ بِالْحُجَّةِ، وَيُقَالُ: عَوَرْت الشَّيْء إِذَا أَدْخَلْت فيه نَقْصًا قَالَ: وَفِي هَذَا ضَعْفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَرَدَّ اللَّه عَيْنه» فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ رَدّ حُجَّته كَانَ بَعِيدًا. وَالثَّالِث أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَك مِنْ عِنْد اللَّه، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَدَافَعَهُ عَنْهَا، فَأَدَّتْ الْمُدَافَعَةُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ، لَا أَنَّهُ قَصَدَهَا بِالْفَقْءِ، وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَة (صَكَّهُ)، وَهَذَا جَوَاب الْإِمَام أَبِي بَكْر بْن خُزَيْمَةَ وَغَيْره مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيّ وَالْقَاضِي عِيَاض، قَالُوا: وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث تَصْرِيح بِأَنَّهُ تَعَمَّدَ فَقْء عَيْنه، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ اِعْتَرَفَ مُوسَى حِين جَاءَهُ ثَانِيًا بِأَنَّهُ مَلَك الْمَوْت، فَالْجَوَاب أَنَّهُ أَتَاهُ فِي الْمَرَّة الثَّانِيَة بِعَلَامَةٍ عَلِمَ بِهَا أَنَّهُ مَلَك الْمَوْت، فَاسْتَسْلَمَ بِخِلَافِ الْمَرَّة الْأُولَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. 4375- وَمَعْنَى: «أَجِبْ رَبَّك» أَيْ لِلْمَوْتِ، وَمَعْنَاهُ جِئْت لِقَبْضِ رُوحك. قَوْله: «فَمَا تَوَارَتْ يَدُك مِنْ شَعْرَةٍ فَإِنَّك تَعِيش بِهَا سَنَة» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «تَوَارَتْ»، وَمَعْنَاهُ وَارَتْ وَسَتَرَتْ. قَوْله: «فَالْآن مِنْ قَرِيب رَبّ أَمِتْنِي بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَة رَمْيَةً بِحَجَرٍ» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: «أَمِتْنِي» بِالْمِيمِ وَالتَّاء وَالنُّون مِنْ الْمَوْت، وَفِي بَعْضهَا: «أَدْنِنِي» بِالدَّالِ وَنُونَيْنِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. 4376- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْن الْأَنْبِيَاء» فَقَدْ سَبَقَ بَيَانه وَتَأْوِيله مَبْسُوطًا فِي أَوَّل كِتَاب الْفَضَائِل. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُنْفَخُ فِي الصُّوَر فَيُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ يَشَاءُ اللَّه، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه أُخْرَى فَأَكُون أَوَّل مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَةِ يَوْم الطُّور، أَوْ بُعِثَ قَبْلِي» وَفِي رِوَايَة: «فَإِنَّ النَّاس يُصْعَقُونَ فَأَكُون أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْش، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَمْ كَانَ مِمَّنْ اِسْتَثْنَى، اللَّهُ تَعَالَى». الصَّعْق وَالصَّعْقَة الْهَلَاك وَالْمَوْت، وَيُقَالُ مِنْهُ: صَعِقَ الْإِنْسَان، وَصَعِقَ بِفَتْحِ الصَّاد وَضَمّهَا، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ الضَّمَّ، وَصَعَقَتْهُمْ الصَّاعِقَة بِفَتْحِ الصَّاد وَالْعَيْن، وَأَصْعَقَتْهُمْ. وَبَنُو تَمِيم يَقُولُونَ: «الصَّاقِعَة» بِتَقْدِيمِ الْقَاف. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مِنْ أَشْكَل الْأَحَادِيث لِأَنَّ مُوسَى قَدْ مَاتَ، فَكَيْف تُدْرِكُهُ الصَّعْقَةُ؟ وَإِنَّمَا تَصْعَقُ الْأَحْيَاءَ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا أَقُولُ: إِنَّ أَحَدًا أَفْضَل مِنْ يُونُسَ بْن مَتَّى» وَفِي رِوَايَة: «إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ لِي يَقُول: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْن مَتَّى» وَفِي رِوَايَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُس بْن مَتَّى» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذِهِ الْأَحَادِيث تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ قَالَ: أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم، وَلَمْ يَقُلْ هُنَا إِنَّ يُونُس أَفْضَل مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ زَجْرًا عَنْ أَنْ يَتَخَيَّلَ أَحَدٌ مِنْ الْجَاهِلِينَ شَيْئًا مِنْ حَطِّ مَرْتَبَةِ يُونُسَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ مَا فِي الْقُرْآن الْعَزِيز مِنْ قِصَّتِهِ. قَالَ الْعُلَمَاء: وَمَا جَرَى لِيُونُسَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُطَّهُ مِنْ النُّبُوَّة مِثْقَال ذَرَّة. وَخَصَّ يُونُس بِالذِّكْرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآن بِمَا ذُكِرَ. 4377- قَوْله: «مِمَّنْ اِسْتَثْنَى اللَّه تَعَالَى» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَيًّا، وَلَمْ يَأْتِ أَنَّ مُوسَى رَجَعَ إِلَى الْحَيَاة، وَلَا أَنَّهُ حَيٌّ كَمَا جَاءَ فِي عِيسَى، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْت ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْره إِلَى جَانِب الطَّرِيق» قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنَّ هَذِهِ الصَّعْقَةَ صَعْقَةُ فَزَعٍ بَعْد الْبَعْث حِين تَنْشَقُّ السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَتَنْتَظِمُ حِينَئِذٍ الْآيَات وَالْأَحَادِيث، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَفَاقَ» لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: أَفَاقَ مِنْ الْغَشْي، وَأَمَّا الْمَوْت فَيُقَالُ: بُعِثَ مِنْهُ، وَصَعْقَةُ الطُّور لَمْ تَكُنْ مَوْتًا. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي» فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ قَبْل أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْض إِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ شَخْصٍ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْض عَلَى الْإِطْلَاق قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِنْ الزُّمْرَة الَّذِينَ هُمْ أَوَّل مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُمْ الْأَرْض، فَيَكُونُ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الزُّمْرَة، وَهِيَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ زُمْرَة الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ. هَذَا آخِرُ كَلَام الْقَاضِي. 4378- قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُخَيِّرُوا بَيْن الْأَنْبِيَاء» فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَتَأْوِيلُهُ مَبْسُوطًا فِي أَوَّل كِتَاب الْفَضَائِل. 4379- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَرَرْت عَلَى مُوسَى، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» هَذَا الْحَدِيث سَبَقَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِر كِتَاب الْإِيمَان عِنْد ذِكْر مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. 4380- سَبَقَ شَرْحه فِي أَوَاخِر كِتَاب الْإِيمَان عِنْد ذِكْر مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. .باب فِي ذِكْرِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْر مِنْ يُونُس»: 4382- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْر مِنْ يُونُس» فَالضَّمِير فِي (أَنَا) قِيلَ: يَعُودُ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْقَائِل أَيْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْض الْجَاهِلِينَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْفَضَائِل، فَإِنَّهُ لَوْ بَلَغَ مِنْ الْفَضَائِل مَا بَلَغَ لَمْ يَبْلُغْ النُّبُوَّةَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيل الرِّوَايَة الَّتِي قَبْله، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: «لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْر مِنْ يُونُس بْن مَتَّى» وَاَللَّه أَعْلَم. .باب مِنْ فَضَائِلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: قَالَ الْعُلَمَاء: لَمَّا سُئِلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاس أَكْرَم؟ أَخْبَرَ بِأَكْمَل الْكَرَم وَأَعَمّه، فَقَالَ: أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْل الْكَرَم كَثْرَة الْخَيْر، وَمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا كَانَ كَثِير الْخَيْر وَكَثِير الْفَائِدَة فِي الدُّنْيَا، وَصَاحِب الدَّرَجَات الْعُلَا فِي الْآخِرَة. فَلَمَّا قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك قَالَ: يُوسُف الَّذِي جَمَعَ خَيْرَات الْآخِرَة وَالدُّنْيَا وَشَرَفهمَا. فَلَمَّا قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُ، فَهِمَ عَنْهُمْ أَنَّ مُرَادهمْ قَبَائِل الْعَرَب قَالَ: «خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَام إِذَا فَقُهُوا» وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَصْحَاب الْمُرُوءَات وَمَكَارِم الْأَخْلَاق فِي الْجَاهِلِيَّة إِذَا أَسْلَمُوا أَوْ فَقُهُوا فَهُمْ خِيَار النَّاس. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ تَضَمَّنَ الْحَدِيث فِي الْأَجْوِبَة الثَّلَاثَة أَنَّ الْكَرَم كُلّه عُمُومه وَخُصُوصه وَمُجْمَله وَمُبَانه. إِنَّمَا هُوَ الدِّين مِنْ التَّقْوَى وَالنُّبُوَّة وَالْإِغْرَاق فيها وَالْإِسْلَام مَعَ الْفِقْه، وَمَعْنَى مَعَادِن الْعَرَب أُصُولهَا وَفَقُهُوا بِضَمِّ الْقَاف عَلَى الْمَشْهُور، وَحُكِيَ كَسْرُهَا أَيْ صَارُوا فُقَهَاء عَالَمِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة الْفِقْهِيَّة وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .باب مِنْ فَضَائِلِ زَكَرِيَّاءَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ:
|